الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
سورة الرعد مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول الكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا آيتين منها نزلتا بمكة؛ وهما قوله عز وجل {المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} قوله تعالى{المر تلك آيات الكتاب} تقدم القول فيها. }والذي أنزل إليك} يعني وهذا القرآن الذي أنزل إليك. }من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} لا كما يقول المشركون: إنك تأتي به من تلقاء نفسك؛ فاعتصم به، وأعمل بما فيه. قال مقاتل: نزلت حين قال المشركون: إن محمدا أتى بالقرآن من تلقاء نفسه. }والذي} في موضع رفع عطفا على }آيات} أو على الابتداء، و}الحق} خبره؛ ويجوز أن يكون موضعه جرا على تقدير: وآيات الذي أنزل إليك، وارتفاع }الحق} على هذا على إضمار مبتدأ، تقديره: ذلك الحق؛ كقوله تعالى يريد: إلى الملك القرم بن الهمام، ليث الكتيبة. }ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون} قوله تعالى{الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} الآية. لما بين تعالى أن القرآن حق، بين أن من أنزل قادر على الكمال؛ فانظروا في مصنوعاته لتعرفوا كمال قدرته؛ وقد تقدم هذا المعنى. وفي قوله{بغير عمد ترونها} قولان: أحدهما: أنها مرفوعة بغير عمد ترونها؛ قاله قتادة وإياس بن معاوية وغيرهما. الثاني: لها عمد، ولكنا لا نراه؛ قال ابن عباس: لها عمد على جبل قاف؛ ويمكن أن يقال على هذا القول: العمد قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، وهي غير مرئية لنا؛ ذكره الزجاج. وقال ابن عباس أيضا: هي توحيد المؤمن. أعمدت السماء حين كادت تنفطر من كفر الكافر؛ ذكره الغزنوي. والعمد جمع عمود؛ قال النابغة: قوله تعالى{ثم استوى على العرش} تقدم الكلام فيه. }وسخر الشمس والقمر} أي ذللهما لمنافع خلقه ومصالح عباده؛ وكل مخلوق مذلل للخالق. }كل يجري لأجل مسمى} أي إلى وقت معلوم؛ وهو فناء الدنيا، وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس، ويخسف القمر، وتنكدر النجوم، وتنتثر الكواكب. وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلها التي ينتهيان إليها لا يجاوزانها. وقيل: معنى الأجل المسمى أن القمر يقطع فلكه في شهر، والشمس في سنة. }يدبر الأمر} أي يصرفه على ما يريد. }يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون} }يفصل الآيات} أي يبينها أي من قدر على هذه الأشياء يقدر على الإعادة؛ ولهذا قال{لعلكم بلقاء ربكم توقنون}. {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} قوله تعالى{وهو الذي مد الأرض} لما بين آيات السماوات بين آيات الأرض؛ أي بسط الأرض طولا وعرضا. }وجعل فيها رواسي} أي جبالا ثوابت؛ واحدها راسية؛ لأن الأرض ترسو بها، أي تثبت؛ والإرساء الثبوت؛ قال عنترة: وقال جميل: وقال ابن عباس وعطاء: أول جبل وضع على الأرض أبو قبيس. مسألة: في هذه الآية رد على من زعم أن الأرض كالكرة، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبوابها عليها؛ وزعم ابن الراوندي أن تحت الأرض جسما صعادا كالريح الصعادة؛ وهي منحدرة فاعتدل الهاوي والصعادي في الجرم والقوة فتوافقا. وزعم آخرون أن الأرض مركب من جسمين، أحدهما منحدر، والآخر مصعد، فاعتدلا، فلذلك وقفت. والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها. وقوله تعالى{وأنهارا} أي مياها جارية في الأرض، فيها منافع الخلق. }ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} بمعنى صنفين. قال أبو عبيدة: الزوج واحد، ويكون اثنين. الفراء: يعني بالزوجين ها هنا الذكر والأنثى؛ وهذا خلاف النص. وقيل: معنى }زوجين} نوعان، كالحلو والحامض، والرطب واليابس، والأبيض والأسود، والصغير والكبير. }إن في ذلك لآيات} أي دلالات وعلامات }لقوم يتفكرون} {وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} قوله تعالى{وفي الأرض قطع متجاورات} }وفي الأرض قطع متجاورات} في الكلام حذف؛ المعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وغير متجاورات؛ كما قال{سرابيل تقيكم الحر} والمعنى: وتقيكم البرد، ثم حذف لعلم السامع. والمتجاورات المدن وما كان عامرا، وغير متجاورات الصحارى وما كان غير عامر. }متجاورات} أي قرى متدانيات، ترابها واحد، وماؤها واحد، وفيها زروع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار والتمر؛ فيكون البعض حلوا، والبعض حامضا؛ والغصن الواحد من الشجرة قد يختلف الثمر فيه من الصغر والكبر واللون والمطعم، وإن انبسط الشمس والقمر على الجميع على نسق واحد؛ وفي هذا أدل دليل على وحدانيته وعظم صمديته، والإرشاد لمن ضل عن معرفته؛ فإنه نبه سبحانه بقوله{تسقى بماء واحد} على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته؛ وهذا أدل دليل على بطلان القول بالطبع؛ إذ لو كان ذلك بالماء والتراب والفاعل له الطبيعة لما وقع الاختلاف. وقيل: وجه الاحتجاج أنه أثبت التفاوت بين البقاع؛ فمن تربة عذبة، ومن تربة سبخة مع تجاورهما؛ وهذا أيضا من دلالات كمال قدرته؛ جل وعز تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. ذهبت الكفرة - لعنهم الله - إلى أن كل حادث يحدث بنفسه لا من صانع؛ وادعوا ذلك في الثمار الخارجة من الأشجار، وقد أقروا بحدوثها، وأنكروا محدثها، وأنكروا الأعراض. وقالت فرقة: بحدوث الثمار لا من صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلا؛ والدليل على أن الحادث لا بد له من محدث أنه يحدث في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر؛ فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به، لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه؛ وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أن اختصاصه به لأجل مخصص خصصه به، ولولا تخصيصه إياه به لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده؛ واستيفاء هذا في علم الكلام. قوله تعالى{وجناتٌ من أعناب} قرأ الحسن }وجناتٍ} بكسر التاء، على التقدير: وجعل فيها جنات، فهو محمول على قوله{وجعل فيها رواسي}. ويجوز أن تكون مجرورة على الحمل على }كل} التقدير: ومن كل الثمرات، ومن جنات. الباقون }جنات} بالرفع على تقدير: وبينهما جنات. }وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان} بالرفع. ابن كثير وأبو عمرو وحفص عطفا على الجنات؛ أي على تقدير: وفي الأرض زرع ونخيل. وخفضها الباقون نسقا على الأعناب؛ فيكون الزرع والنخيل من الجنات؛ ويجوز أن يكون معطوفا على }كل} حسب ما تقدم في }وجنات}. وقرأ مجاهد والسلمي وغيرهما }صنوان} بضم الصاد، الباقون بالكسر؛ وهما لغتان؛ وهما جمع صنو، وهي النخلات والنخلتان، يجمعهن أصل واحد، وتتشعب منه رؤوس فتصير نخيلا؛ نظيرها قنوان، واحدها قنو وروى أبو إسحاق عن البراء قال: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق؛ النحاس: وكذلك هو في اللغة؛ يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر صنوان. والصنو المثل؛ ومنه صنوان لا يستتم حسنهما إلا بجمع ذا وذاك معا قوله تعالى{يسقى بماء واحد} كصالح بني آدم وخبيثهم؛ أبوهم واحد؛ قاله النحاس والبخاري. وقرأ عاصم وابن عامر{يسقى} بالياء، أي يسقى ذلك كله. وقرأ الباقون بالتاء، لقوله{جنات} واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة؛ قال أبو عمرو: والتأنيث أحسن؛ }ونفضل بعضها على بعض في الأكل} ولم يقل بعضه. وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما }ويُفَضِّل} بالياء ردا على قوله ومنها شجر ينضج طول الدهر قطران {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} أي لعلامات لمن كان له قلب يفهم عن الله تعالى. {وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله تعالى{وإن تعجب فعجب قولهم} أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعدما كنت عندهم الصادق الأمين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث؛ والله تعالى لا يتعجب، ولا يجوز عليه التعجب؛ لأنه تغير النفس بما تخفى أسبابه، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون. وقيل المعنى: أي إن عجبت يا محمد من إنكارهم الإعادة مع إقرارهم بأني خالق السماوات والأرض والثمار المختلفة من الأرض الواحدة فقولهم عجب يعجب منه الخلق؛ لأن الإعادة في معنى الابتداء. وقيل: الآية في منكري الصانع؛ أي إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير فهو محل التعجب؛ ونظم الآية يدل على الأول والثاني؛ لقوله{أئذا كنا ترابا} أي انبعث إذا كنا ترابا؟ !. }أئنا لفي خلق جديد} وقرئ }إنا}. و}الأغلال} جمع غل؛ وهو طوق تشد به اليد إلى العنق، أي يغلون يوم القيامة؛ بدليل قوله {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب} قوله تعالى{ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} أي لفرط إنكارهم وتكذيبهم يطلبون العذاب؛ قيل هو قولهم قوله تعالى{وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب} أي لذو تجاوز عن المشركين إذا أمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا. وقال ابن عباس: أرجى آية في كتاب الله تعالى }وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}. }وإن ربك لشديد العقاب} إذا أصروا على الكفر. وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت{وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب} {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} قوله تعالى{ويقول الذين كفروا لولا} أي هلا }أنزل عليه آية من ربه}. لما اقترحوا الآيات وطلبوها قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم{إنما أنت منذر} أي معلم. }ولكل قوم هاد} أي نبي يدعوهم إلى الله. وقيل: الهادي الله؛ أي عليك الإنذار، والله هادي، كل قوم إن أراد هدايتهم. {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} قوله تعالى{الله يعلم ما تحمل كل أنثى} أي من ذكر وأنثى، صبيح وقبيح، صالح وطالح؛ وقد تقدم في سورة }الأنعام} أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب وحده لا شريك له؛ وذكرنا هناك حديث البخاري في هذه الآية دليل على أن الحامل تحيض؛ وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه. وقال عطاء والشعبي وغيرهما: لا تحيض؛ وبه قال أبو حنيفة؛ ودليله الآية. قال ابن عباس في تأويلها: إنه. حيض الحبالى، وكذلك روي عن عكرمة ومجاهد؛ وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة؛ والصحابة إذ ذاك متوافرون، ولم ينكر منهم أحد عليها، فصار كالإجماع؛ قاله ابن القصار. وذكر أن رجلين، تنازعا ولدا، فترافعا إلى عمر رضي الله عنه فعرضه على القافة، فألحقه القافة بهما، فعلاه عمر بالدرة، وسأل نسوة من قريش فقال: انظرن ما شأن هذا الولد؟ فقلن: إن الأول خلا بها وخلاها، فحاضت على الحمل، فظنت أن عدتها انقضت؛ فدخل بها الثاني، فانتعش الولد بماء الثاني؛ فقال عمر: الله أكبر! وألحقه بالأول، ولم يقل إن الحامل لا تحيض، ولا قال ذلك أحد من الصحابة؛ فدل أنه إجماع، والله أعلم. واحتج المخالف بأن قال لو كان الحامل تحيض، وكان ما تراه المرأة من الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض؛ وهو إجماع وروي عن مالك في كتاب محمد ما يقتضي أنه ليس بحيض. في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر والأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبدالملك، بن مروان ولد لستة أشهر. وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة؛ ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك، وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها؛ حكاه ابن عطية. واختلف العلماء في أكثر الحمل؛ فروى ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل؛ ذكره الدارقطني. وقالت جميلة بنت سعد - أخت عبيد بن سعد، وعن الليث بن سعد - إن أكثره ثلاث سنين. وعن الشافعي أربع سنين؛ وروي عن مالك في إحدى روايتيه، والمشهور عنه خمس سنين؛ وروي عنه لا حد له، ولو زاد على العشرة الأعوام؛ وهي الرواية الثالثة عنه. وعن الزهري ست وسبع. قال أبو عمر: ومن الصحابة من يجعله إلى سبع؛ والشافعي: مدة الغاية منها أربع سنين. والكوفيون يقولون: سنتان لا غير. ومحمد بن عبدالحكم يقول: سنة لا أكثر. وداود يقول: تسعة أشهر، لا يكون عنده حمل أكثر منها. قال أبو عمر: وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد، والرد إلى ما عرف من أمر النساء وبالله التوفيق. روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك ابن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال: سبحان الله! من يقول هذا؟ ! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان، تحمل وتضع في أربع سنين، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق؛ حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين. وذكره عن المبارك ابن مجاهد قال: مشهور عندنا كانت امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين، وكانت تسمى حاملة الفيل. وروى أيضا قال: بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى! ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد؛ فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء! ثم قرأ، ثم دعا، ثم قال: اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها الساعة، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، ورفع مالك يده، ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط، ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه، ما قطعت سراره؛ وروي أيضا أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى؛ فشاور عمر الناس في رجمها، فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين! إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل؛ فاتركها حتى تضع، فتركها، فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه؛ فعرف الرجل الشبه فقال: ابني ورب الكعبة!؛ فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ؛ لولا معاذ لهلك عمر. وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني. ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين، وقيل: ثلاث سنين. ويقال: إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه. وقال حماد بن سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين، وقد طلعت سنه فسمي ضحاكا. وقال عباد بن العوام: ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه، فمر به طير فقال: كش. قال ابن خويز منداد: أقل الحيض والنفاس وأكثره وأقل الحمل وأكثره مأخوذ من طريق الاجتهاد؛ لأن علم ذلك استأثر الله به، فلا يجوز أن يحكم في شيء منه إلا بقدر ما أظهره لنا، ووجد ظاهرا في النساء نادرا أو معتادا؛ ولما وجدنا امرأة قد حملت أربع سنين وخمس سنين حكمنا بذلك، والنفاس والحيض لما لم نجد فيه أمرا مستقرا رجعنا فيه إلى ما يوجد في النادر منهن. قال ابن العربي: نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر الحمل تسعة أشهر؛ وهذا ما لم ينطق به قط إلا هالكي، وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل في الرحم الكواكب السبعة؛ تأخذه شهرا شهرا، ويكون الشهر الرابع منها للشمس؛ ولذلك يتحرك ويضطرب، وإذا تكامل التداول في السبعة الأشهر بين الكواكب السبعة عاد في الشهر الثامن إلى زحل، فيبقله ببرده؛ فيا ليتني تمكنت من مناظرتهم أو مقاتلتهم! ما بال المرجع بعد تمام الدور يكون إلى زحل دون غيره؟ الله أخبركم بهذا أم على الله تفترون؟ ! وإذا جاز أن يعود إلى اثنين منها لم لا يجوز أن يعود التدبير إلى ثلاث أو أربع، أو يعود إلى جميعها مرتين أو ثلاثا؟ ! ما هذا التحكم بالظنون الباطلة على الأمور الباطنة!. قوله تعالى{وكل شيء عنده بمقدار} يعني من النقصان والزيادة. ويقال{بمقدار} قدر خروج الولد من بطن أمه، وقد مكثه في بطنها إلى خروجه. وقال قتادة: في الرزق والأجل. والمقدار القدر؛ وعموم الآية يتناول كل ذلك، والله سبحانه أعلم. قلت: هذه الآية تمدح الله سبحانه وتعالى بها بأنه }عالم الغيب والشهادة} أي هو عالم بما غاب عن الخلق، وبما شهدوه. فالغيب مصدر بمعنى الغائب. والشهادة مصدر بمعنى الشاهد؛ فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد؛ فأما أهل الطب الذين يستدلون بالأمارات والعلامات فإن قطعوا بذلك فهو كفر، وإن قالوا إنها تجربة تركوا وما هم عليه، ولم يقدح ذلك في الممدوح؛ فإن العادة يجوز انكسارها، والعلم لا يجوز تبدله. و}الكبير} الذي كل شيء دونه. }المتعال} عما يقول المشركون، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره؛ وقد ذكرناهما في شرح الأسماء مستوفى، والحمد لله. {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} قوله تعالى{سواء منكم من أسر القول ومن جهر به} إسرار القول: ما حدث به المرء نفسه، والجهر ما حدث به غيره؛ والمراد بذلك أن الله سبحانه يعلم ما أسره الإنسان من خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر. و}منكم} يحتمل أن يكون وصفا لـ } سواء} التقدير: سير من أسر وجهر من جهر سواء منكم؛ ويجوز أن يتعلق }بسواء} على معنى: يستوي منكم، كقولك: مررت بزيد. ويجوز أن يكون على تقدير: سر من أسر منكم وجهر من جهر منكم. ويجوز أن يكون التقدير: ذو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، كما تقول: عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل. وقيل{سواء} أي مستو، فلا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف. }ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} }بالنهار} أي يستوي في علم الله السر والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات. وقال الأخفش وقطرب: المستخفي بالليل الظاهر؛ ومنه خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته؛ وأخفيت الشيء أي استخرجته؛ ومنه قيل للنباش: المختفي. وقال امرؤ القيس: والسارب المتواري، أي الداخل سربا؛ ومنه قولهم: انسرب الوحشي إذا دخل في كناسه. وقال ابن عباس{مستخف} مستتر، }وسارب} ظاهر. مجاهد{مستخف} بالمعاصي، }وسارب} ظاهر. وقيل: معنى }سارب} ذاهب؛ قال الكسائي: سرب يسرب سربا وسروبا إذا ذهب؛ وقال الشاعر: أي ذاهب. وقال أبو رجاء: السارب الذاهب على وجهه في الأرض؛ قال الشاعر: وقال القتبي{سارب بالنهار} أي منصرف في حوائجه بسرعة؛ من قولهم: أنسرب الماء. وقال الأصمعي: خل سربه أي طريقه. {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} قوله تعالى{له معقبات} قوله تعالى{له معقبات} أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار؛ فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار. وقال{معقبات} والملائكة ذكران لأنه جمع معقبة؛ يقال: ملك معقب، وملائكة معقبة، ثم معقبات جمع الجمع. وقرأ بعضهم - }له معاقيب من بين يديه ومن خلفه}. ومعاقيب جمع معقب؛ وقيل للملائكة معقبة على لفظ الملائكة وقيل: أنث لكثرة ذلك منهم؛ نحو نسابة وعلامة وراوية؛ قال الجوهري وغيره. والتعقب العود بعد البدء؛ قال الله تعالى قوله تعالى{يحفظونه من أمر الله} اختلف في هذا الحفظ؛ فقيل: يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرة، لطفا منه به، فإذا جاء القدر. خلوا بينه وبينه؛ قال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. قال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى علي فقال: احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك؛ فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله، وإن الأجل حصن حصينة؛ وعلى هذا، }يحفظونه من أمر الله} أي بأمر الله وبإذنه؛ فـ }من} بمعنى الباء؛ وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقيل{من} بمعنى عن؛ أي يحفظونه عن أمر الله، وهذا قريب من الأول؛ أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم؛ وهذا قول الحسن؛ تقول: كسوته عن عري ومن عري؛ ومنه قوله عز وجل وقيل{له معقبات من بين يديه ومن خلفه} يعني به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه؛ وقد جرى ذكر الرسول في قوله وروى الأئمة عن عمرو عن ابن عباس قرأ - }معقبات من بين يديه ووقباء من خلفه من أمر الله يحفظونه} فهذا قد بين المعنى. قوله تعالى{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب؛ كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة؛ فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير؛ قوله تعالى{وإذا أراد الله بقوم سوءا} أي هلاكا وعذابا، }فلا مرد له} وقيل: إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه. وله: إذا أراد الله بقوم سوءا أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه؛ فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. }وما لهم من دونه من وال} أي ملجأ؛ وهو معنى قول السدي. وقيل: من ناصر يمنعهم من عذابه؛ وقال الشاعر: ووال وولي كقادر وقدير. {هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال} قوله تعالى{هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال} أي بالمطر. }السحاب} جمع، والواحدة سحابة، وسحب وسحائب في الجمع أيضا. }ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته} قد مضى في }البقرة} القول في الرعد والبرق والصواعق فلا معنى للإعادة؛ والمراد بالآية بيان كمال قدرته؛ وأن تأخير العقوبة ليس عن عجز؛ أي يربكم البرق في السماء خوفا للمسافر؛ فإنه يخاف أذاه لما ينال من المطر والهول والصواعق؛ قال الله تعالى قوله تعالى{ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء} ذكر الماوردي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب ومجاهد: نزلت في يهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني! من أي شيء ربك؛ أمن لؤلؤ أم من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأحرقته. أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بالفا رس يوم الكريهة النجد وفيه قال: يا أربد الخير الكريم جدوده أفردتني أمشي بقرن أعضب وأسلم لبيد بعد ذلك رضي الله عنه. مسألة: قوله تعالى{وهم يجادلون في الله} يعني جدال اليهودي حين سأل عن الله تعالى: من أي شيء هو؟ قال مجاهد. وقال ابن جريج: جدال أربد فيما هم به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون، }وهم يجادلون في الله} حالا، ويجوز أن يكون منقطعا. وقال آخر: وقال عبدالمطلب: لا يغلبن صليبهم ومحا لهم عدوا محالك {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} قوله تعالى{له دعوة الحق} أي لله دعوة الصدق. قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: لا إله إلا الله. وقال الحسن: إن الله هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق. وقيل: إن الإخلاص في الدعاء هو دعوة الحق؛ قال بعض المتأخرين. وقيل: دعوة الحق دعاؤه عند الخوف؛ فإنه لا يدعى فيه إلا إياه. كما قال وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا، لأن الماء لا يستجيب، وما الماء ببالغ إليه؛ قاله مجاهد. الثاني: أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لكذب ظنه، وفساد توهمه؛ قاله ابن عباس. الثالث: أنه كباسط كفه إلى الماء ليقبض عليه فلا يجمد في كفه شيء منه. وزعم الفراء أن المراد بالماء ههنا البئر؛ لأنها معدن للماء، وأن المثل كمن مد يده إلى البئر بغير رشاء؛ وشاهده قول الشاعر: قال علي رضي الله عنه: هو كالعطشان على شفة البئر، فلا يبلغ قعر البئر، ولا الماء يرتفع إليه، ومعنى }إلا كباسط} إلا كاستجابة باسط كفيه }إلى الماء} فالمصدر مضاف إلى الباسط، ثم حذف المضاف؛ وفاعل المصدر المضاف مراد في المعنى وهو الماء؛ والمعنى: إلا كإجابة باسط كفيه إلى الماء؛ واللام في قوله{ليبلغ فاه} متعلقة بالبسط، وقوله{وما هو ببالغه} كناية عن الماء؛ أي وما الماء ببالغ فاه. ويجوز أن يكون }هو} كناية عن الفم؛ أي ما الفم ببالغ الماء. }وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في ضلال، لأنها شرك، وقيل: إلا في ضلال أي يضل عنهم ذلك الدعاء، فلا يجدون منه سبيلا؛ كما قال { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال} قوله تعالى{ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها} قال الحسن وقتادة وغيرهما: المؤمن يسجد طوعا، والكافر يسجر كرها بالسيف. وعن قتادة أيضا: يسجد الكافر كارها حين لا ينفه الإيمان. وقال الزجاج: سجود الكافر كرها ما فيه من الخضوع وأثر الصنعة. وقال ابن زيد{طوعا} من دخل في الإسلام رغبة، و}كرها} من دخل فيه رهبة بالسيف. وقيل{طوعا} من طالت مدة إسلامه فألف السجود، و}كرها} من يكره نفسه لله تعالى؛ فالآية في المؤمنين، وعلى هذا يكون معنى }والأرض} وبعض من في الأرض. قال القشري: وفي الآية مسلكان: أحدهما: أنها عامة والمراد بها التخصيص؛ فالمؤمن يسجد طوعا، وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين؛ فالآية محمولة على هؤلاء، ذكره الفراء. وقيل على هذا القول: الآية في المؤمنين؛ منهم من يسجد طوعا لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه؛ لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إخلاصا وإيمانا، إلى أن يألفوا الحق ويمرنوا عليه. والمسلك الثاني: وهو الصحيح - إجراء الآية على التعميم؛ وعلى هذا طريقان: أحدهما: أن المؤمن يسجد طوعا، وأما الكافر فمأمور: السجود مؤاخذ به. والثاني: وهو الحق - أن المؤمن يسجد ببدنه طوعا، وكل مخلوق من المؤمن والكافر يسجد من حيث إنه مخلوق، يسجد دلالة وحاجة إلى الصانع؛ وهذا كقوله قوله تعالى{وظلالهم بالغدو والآصال} أي ظلال الخلق ساجدة لله تعالى بالغدو والآصال؛ لأنها تبين في هذين الوقتين، وتميل من ناحية إلى ناحية؛ وذلك تصريف الله إياها على ما يشاء؛ وهو كقوله تعالى و}ظلالهم} يجوز أن يكون معطوفا على }من} ويجوز أن يكون ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ التقدير: وظلالهم سجد بالغدو والآصال و}بالغدو} يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون جمع غداة؛ يقوى كونه جمعا مقابلة الجمع الذي هو الآصال به. {قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} قوله تعالى{قل من رب السماوات والأرض قل الله} أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين{قل من رب السماوات والأرض} ثم أمره أن يقول لهم: هو الله إلزاما للحجة إن لم يقولوا ذلك، وجهلوا من هو. }قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا} هذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق وإلا لم يكن للاحتجاج بقوله{قل أفاتخذتم من دونه أولياء} معنى؛ دليله قوله {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} قوله تعالى{أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا} ضرب مثلا للحق والباطل؛ فشبه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتدفعه الرياح؛ فكذلك يذهب الكفر ويضمحل، عله، ما نبينه. قال مجاهد{فسالت أودية بقدرها} قال: بقدر ملئها. وقال ابن جريج: بقدر صغرها وكبرها. وقرأ الأشهب العقيلي والحسن }بقدرها} بسكون الدال، والمعنى واحد. وقيل: معناها بما قدر لها. والأودية. جمع الوادي؛ وسمي واديا لخروجه وسيلانه؛ فالوادي على هذا اسم للماء السائل. وقال أبو علي{فسالت أودية} توسع؛ أي سال ماؤها فحذف، قال: ومعنى }بقدرها} بقدر مياهها؛ لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. }فاحتمل السيل زبدا رابيا} أي طالعا عاليا مرتفعا فوق الماء؛ وتم الكلام؛ قال مجاهد. ثم قال{ومما يوقدون عليه في النار} وهو المثل الثاني. }ابتغاء حلية} أي حلية الذهب والفضة. }أو متاع زبد مثله} قال مجاهد: الحديد والنحاس والرصاص. وقوله{زبد مثله} أي يعلو هذه الأشياء زبد كما يعلو السيل؛ وإنما احتمل السيل الزبد لأن الماء خالطه تراب الأرض فصار ذلك زبدا، كذلك ما يوقد عليه في النار من الجوهر ومن الذهب والفضة مما ينبث في الأرض من المعادن فقد خالطه التراب؛ فإنما يوقد عليه ليذوب فيزايله تراب الأرض. وقوله{كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء} قال مجاهد: جمودا. وقال أبو عبيدة قال أبو عمرو بن العلاء: أجفأت القدر إذا غلت حتى ينصب زبدها، وإذا جمد في أسفلها. والجفاء ما أجفاه الوادي أي رمى به. وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ }جفالا} قال أبو عبيدة: يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها، وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته. }وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} قال مجاهد: هو الماء الخالص الصافي. وقيل: الماء وما خلص من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص؛ وهو أن المثلين ضربهما الله للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال فإنه يضمحل كاضمحلال الزبد. والخبث. وقيل: المراد مثل ضربه الله للقرآن وما يدخل منه القلوب؛ فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها. قال ابن عباس{أنزل من الماء ماء} قال: قرآنا، }فسالت أودية بقدرها} قال: الأودية قلوب العباد. قال صاحب }سوق العروس} إن صح هذا التفسير فالمعنى فيه أن الله سبحانه مثل القرآن بالماء. ومثل القلوب بالأودية، ومثل المحكم بالصافي، ومثل المتشابه بالزبد. وقيل: الزبد مخايل النفس وغوائل الشك ترتفع من حيث ما فيها فتضطرب من سلطان تلعها، كما أن ماء السيل يجري صافيا فيرفع ما يجد في الوادي باقيا، وأما حلية الذهب والفضة فمثل الأحوال النية. والأخلاق الزكية؛ التي بها جمال الرجال، وقوام صالح الأعمال، كما أن من الذهب والفضة زينة النساء. وبهما قيمة الأشياء. وقرأ جحيد وابن محيصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، }يوقدون} بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله{ينفع الناس} فأخبر، ولا مخاطبة هاهنا. الباقون بالتاء لقوله في أول الكلام {للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد} قوله تعالى{للذين استجابوا لربهم} أي أجابوا؛ واستجاب بمعنى أجاب؛ قال: وقد تقدم؛ أي أجاب إلى ما دعاه الله من التوحيد والنبوات. }الحسنى} لأنها في نهاية الحسن. وقيل: من الحسنى النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدا. }والذين لم يستجيبوا} أي لم يجيبوا إلى الإيمان به. }لو أن لهم ما في الأرض جميعا} أي من الأموال. }ومثله معه} ملك لهم. }لافتدوا به} من عذاب يوم القيامة؛ نظيره في }آل عمران} {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب} قوله تعالى{أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، وروي أنها نزلت في حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وأبي جهل لعنه الله. والمراد بالعمى عمى القلب، والجاهل بالدين أعمى القلب. }إنما يتذكر أولو الألباب}. {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} قوله تعالى{الذين يوفون بعهد الله} هذا من صفة ذوي الألباب، أي إنما يتذكر أولو الألباب الموفون بعهد الله. والعهد اسم الجنس؛ أي بجميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده؛ ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي. وقوله{ولا ينقضون الميثاق} يحتمل أن يريد به جنس المواثيق، أي إذا عقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه. قال قتادة: تقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية؛ ويحتمل أن يشير إلى ميثاق بعينه، هو الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم. وقال القفال: هو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات. تلطفت في أمري فأبديت شاهدي إلى غائبي واللطف يدرك باللطف
تراءيت لي بالعلم حتى كأنما تخبرني بالغيب أنك في كف
أراني وبي من هيبتي لك وحشة فتؤنسني باللطف منك وبالعطف
وتحيي محبا أنت في الحب حتفه وذا عجب كيف الحياة مع الحتف قال ابن العربي: هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام والكمال، فاقتدوا به إن شاء الله تهتدوا. قال أبو الفرج الجوزي: سكوت هذا الرجل في هذا المقام على التوكل بزعمه إعانة على نفسه، وذلك لا يحل؛ ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته في تلك الحالة؛ كما لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوكل بإخفائه الخروج من مكة، واستئجاره دليلا، واستكتامه ذلك الأمر، واستتاره في الغار، وقوله لسراقة: (اخف عنا). فالتوكل الممدوح لا ينال بفعل محظور؛ وسكوت هذا الواقع في البئر محظور عليه، وبيان ذلك أن الله تعالى قد خلق للآدمي آلة يدفع عنه بها الضرر، وآلة يجتلب بها النفع، فإذا عطلها مدعيا للتوكل كان ذلك جهلا بالتوكل، وردا لحكمة التواضع؛ لأن التوكل إنما هو اعتماد القلب على الله تعالى، وليس من ضرورته قطع الأسباب؛ ولو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار؛ قاله سفيان الثوري وغيره، لأنه قد دل على طريقة السلامة، فإذا تقاعد عنها أعان على نفسه. وقال أبو الفرج: ولا التفات إلى قول أبي حمزة{فجاء أسد فأخرجني} فإنه إن صح ذلك فقد يقع مثله اتفاقا وقد يكون لطفا من الله تعالى بالعبد الجاهل، ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف به، إنما ينكر فعله الذي هو كسبه، وهو إعانته على نفسه التي هي وديعة لله تعالى عنده، وقد أمره بحفظها. {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب} قوله تعالى{والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قتادة وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. }ويخشون ربهم} قيل: في قطع الرحم. وقيل: في جميع المعاصي. }ويخافون سوء الحساب} سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة؛ ومن نوقش الحساب عذب. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: معنى. }يصلون ما أمر الله به} الإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم. الحسن: هو صلة محمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل رابعا: أن يصلوا الإيمان بالعمل الصالح؛ }ويخشون ربهم} فيما أمرهم بوصله، }ويخافون سوء الحساب} في تركه؛ والقول الأول يتناول هذه الأقوال كما ذكرنا، وبالله توفيقنا. {والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار} قوله تعالى{والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم} قيل{الذين} مستأنف؛ لأن }صبروا} ماض فلا ينعطف على }يوفون} وقيل.: هو من وصف من تقدم، ويجوز الوصف تارة بلفظ الماضي، وتارة بلفظ المستقبل؛ لأن المعنى من يفعل كذا فله كذا؛ ولما كان }الذين} يتضمن الشرط، والماضي في الشرط كالمستقبل جاز ذلك؛ ولهذا قال{الذين يوفون} ثم قال{والذين صبروا} ثم عطف عليه فقال{ويدرؤون بالحسنة السيئة} قال ابن زيد: صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله. وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب، والحوادث والنوائب. وقال أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم ابتغاء وجه الله }وأقاموا الصلاة} أدوها بفروضها وخشوعها في مواقيتها. }وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية} يعني الزكاة المفروضة، عن ابن عباس، وقد مضى القول في هذا في }البقرة} وغيرها. }ويدرؤون بالحسنة السيئة} أي يدفعون بالعمل الصالح السيء من الأعمال، قال ابن عباس. ابن زيد: يدفعون الشر بالخير. سعيد بن جبير: يدفعون المنكر بالمعروف. الضحاك: يدفعون الفحش بالسلام. جويبر: يدفعون الظلم بالعفو. ابن شجرة: يدفعون الذنب بالتوبة. القتبي: يدفعون سفه الجاهل بالحلم؛ فالسفه السيئة، والحلم الحسنة. وقيل: إذا هموا بسيئة رجعوا عنها واستغفروا. وقيل: يدفعون الشرك بشهادة أن لا إله إلا الله؛ فهذه تسعة أقوال، معناها كلها متقارب، والأول يتناولها بالعموم؛ ونظيره {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} قوله تعالى{جنات عدن يدخلونها} أي لهم جنات عدن؛ فـ }جنات عدن} بدل من }عقبي} ويجوز أن تكون تفسيرا لـ}عقبى الدار} أي لهم دخول جنات عدن؛ لأن }عقبى الدار} حدث و}جنات عدن} عين، والحدث إنما يفسر بحدث مثله؛ فالمصدر المحذوف مضاف إلى المفعول. ويجوز أن يكون }جنات عدن} خبر ابتداء محذوف. و}جنات عدن} وسط الجنة وقصبتها، وسقفها عرش الرحمن؛ قال القشيري أبو نصر عبدالملك. قوله تعالى{والملائكة يدخلون عليهم من كل باب} أي بالتحف والهدايا من عند الله تكرمة لهم. }سلام عليكم} أي يقولون: سلام عليكم؛ فأضمر القول، أي قد سلمتم من الآفات والمحن. وقيل: هو دعاء لهم بدوام السلامة، وإن كانوا سالمين، أي سلمكم الله، فهو خبر معناه الدعاء؛ ويتضمن الاعتراف بالعبودية. }بما صبرتم} أي بصبركم؛ فـ}ما} مع الفعل بمعنى المصدر، والباء في }بما} متعلقة بمعنى. }سلام عليكم} ويجوز أن تتعلق بمحذوف؛ أي هذه الكرامة بصبركم، أي على أمر الله تعالى ونهيه؛ قال سعيد بن جبير. وقيل: على الفقر في الدنيا؛ قاله أبو عمران الجوني. وقيل: على الجهاد في سبيل الله؛ كما {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} قوله تعالى{والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} لما ذكر الموفين بعهده، والمواصلين لأمره، وذكر ما لهم ذكر عكسهم. نقض الميثاق: ترك أمره. وقيل: إهمال عقولهم، فلا يتدبرون بها ليعرفوا الله تعالى. }ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} أي من الأرحام. والإيمان بجميع الأنبياء. }ويفسدون في الأرض} أي بالكفر وارتكاب المعاصي }أولئك لهم اللعنة} أي الطرد والإبعاد من الرحمة. }ولهم سوء الدار} أي سوء المنقلب، وهو جهنم. وقال سعد بن أبي وقاص: والله الذي لا إله إلا هو ! إنهم الحرورية. {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} قوله تعالى{الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} لما ذكر عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك بين أنه تعالى الذي يبسط الرزق ويقدر في الدنيا، لأنها دار امتحان؛ فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته، والتقتير على بعض المؤمنين لا يدل على إهانتهم. }ويقدر} أي يضيق؛ ومنه
|